تفسير أبي السّعود - ج ٤

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي

تفسير أبي السّعود - ج ٤

المؤلف:

أبي السعود محمّد بن محمّد العمادي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

(لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠)

____________________________________

تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) ندما وغما لفواتها من غير حصول المقصود جعل ذاتها حسرة وهى عاقبة إنفاقها مبالغة (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أى تموا على* الكفر وأصروا عليه (إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أى يساقون لا إلى غيرها (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أى الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح واللام متعلقة بيحشرون أو بيغلبون أو ما أنفقه المشركون فى عداوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما أنفقه المسلمون فى نصرته واللام متعلقة بقوله ثم تكون عليهم حسرة وقرىء ليميز بالتشديد للمبالغة (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً) أى يضم بعضه إلى بعض حتى يتراكموا* لفرط ازدحامهم فيجمعه أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه كما للكافرين (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) كله* (أُولئِكَ) إشارة إلى الخبيث إذ هو عبارة عن الفريق أو إلى المنفقين وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد* درجتهم فى الخبث (هُمُ الْخاسِرُونَ) الكاملون فى الخسران لأنهم خسروا أنفسهم واموالهم (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) هم أبو سفيان وأصحابه أى قل لأجلهم (إِنْ يَنْتَهُوا) عما هم فيه من معاداة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدخول فى* الإسلام (يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) من الذنوب وقرىء إن تنتهوا يغفر لكم ويغفر لكم على البناء للفاعل* وهو الله تعالى (وَإِنْ يَعُودُوا) إلى قتالهم (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم* السلام بالتدبير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك (وَقاتِلُوهُمْ) عطف على (قُلْ) وقد عمم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين فى القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله تعالى (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) من الوعيد (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أى لا يوجد منهم شرك (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) وتضمحل الأديان الباطلة إما بإهلاك* أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن الكفر بقتالكم (فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) * فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم وقرىء بتاء الخطاب أى بما تعملون من الجهاد المخرج لهم إلى الإسلام وتعليقه بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشرون بالمباشرة (وَإِنْ تَوَلَّوْا) ولم ينتهوا عن ذلك (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ) ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم (نِعْمَ الْمَوْلى) لا يضيع من* تولاه (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) لا يغلب من نصره.

٢١

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١)

____________________________________

 (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ) عن الكلبى أنها نزلت ببدر وقال الواقدى كان الخمس فى غزوة بنى قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وما موصولة وعائدها محذوف أى الذى أصبتموه من الكفار عنوة وأصل الغنيمة إصابة الغنم من العدو ثم اتسع وأطلق* على ما أصيب منهم كائنا ما كان وقوله تعالى (مِنْ شَيْءٍ) بيان للموصول محله النصب على أنه حال من عائد الموصول قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة وأن لا يشذ عنها شىء أى ما غنمتموه كائنا مما يقع عليه اسم الشىء حتى الخيط والمخيط خلا أن سلب المقتول للقاتل إذا نفله الإمام وأن الأسارى يخير فيها* الإمام وكذا الأراضى المغنومة وقوله تعالى (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مبتدأ خبره محذوف أى فحق أو واجب أن له تعالى خمسه وهذه الجملة خبر لأنما الخ وقرىء بالكسر والأولى آكد وأقوى فى الإيجاب لما فيه من تكرر الإسناد كأنه قيل فلا بد من ثبات الخمس ولا سبيل إلى الإخلال به وقرىء فلله خمسه وقرىء خمسه بسكون الميم والجمهور على أن ذكر الله تعالى للتعظيم كما فى قوله تعالى (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه بقوله تعالى (وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وإعادة اللام فى ذى القربى دون غيرهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهم اشتراكهم فى سهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمزيد اتصالهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون بنى عبد شمس وبنى نوفل لما روى عن عثمان وجبير بن مطعم رضى الله عنهما أنهما قالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذى جعلك الله منهم أرأيت إخواننا بنى المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنهم لم يفارقونا فى جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شىء واحد وشبك بين أصابعه وكيفية قسمتها عندنا أنها كانت فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة أسهم سهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسهم للمذكورين من ذوى قرباه وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعده صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسهمه ساقط وكذا سهم ذوى القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة لسائر الفقراء ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على الأصناف الثلاثة ويؤيده ما روى عن أبى بكر رضى الله عنه أنه منع بنى هاشم الخمس وقال إنما لكم أن يعطى فقيركم وتزوج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ومن عداهم فهو بمنزلة ابن السبيل الغنى لا يعطى من الصدقة شيئا وعن زيد بن على مثله قال ليس لنا أن نبنى منه قصورا ولا نركب منه البراذين وقيل سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لولى الأمر بعده وأما عند الشافعى رحمه‌الله فيقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الكراع والسلاح ونحو ذلك وسهم لذوى القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين والباقى للفرق الثلاث

٢٢

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢)

____________________________________

وعند مالك رحمه‌الله الأمر فيه مفوض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء وإن رأى أعطاه بعضا منهم دون بعض وإن رأى غيرهم أولى وأهم فغيرهم وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال يقسم ستة أسهم ويصرف سهم الله تعالى إلى رتاج الكعبة لما روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأخذ منه قبضة فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسم ما بقى على خمسة أسهم وقيل سهم الله لبيت المال وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا شأن الخمس وأما الأخماس الأربعة فتقسم بين الغانمين للراجل سهم وللفارس سهمان عند أبى حنيفة رضى الله عنه وثلاثة أسهم عندهما رحمهما‌الله. قال القرطبى لما بين الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقى دل ذلك على أنه ملك للغانمين وقوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) متعلق بمحذوف ينبىء عنه* المذكور أى إن كنتم آمنتم به تعالى فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به إلى الله تعالى فاقطعوا أطماعكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة وليس المراد به مجرد العلم بذلك بل العلم المشفوع بالعمل والطاعة لأمره تعالى (وَما أَنْزَلْنا) عطف على الاسم الجليل أى إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلناه (عَلى عَبْدِنا) * وقرىء عبدنا وهو اسم جمع أريد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون فإن بعض ما نزل نازل عليهم بالذات كما ستعرفه (يَوْمَ الْفُرْقانِ) يوم بدر سمى به لفرقه بين الحق والباطل وهو منصوب بأنزلنا أو بآمنتم (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أى الفريقان من المؤمنين والكافرين وهو بدل من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أو منصوب بالفرقان والمراد ما أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ من الوجى والملائكة والفتح على أن المراد بالإنزال مجرد الإيصال والتيسير فينتظم الكل انتظاما حقيقيا وجعل الإيمان بإنزال هذه الأشياء من موجبات العلم بكون الخمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث إن الوحى ناطق بذلك وإن الملائكة والفتح لما كانا من جهته تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفة إلى الجهات التى عينها الله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يقدر على نصر القليل على الكثير والذليل على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) بدل ثان من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) والعدوة بالضم شط الوادى وكذا بالفتح والكسر وقد قرىء بهما أيضا (وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) أى البعدى من المدينة وهى تأنيث الأقصى وكان القياس قلب الواو ياء كالدنيا والعليا مع كونهما من بنات الواو لكنها جاءت على الأصل كالقود واستصوب وهو أكثر استعمالا من القصيا (وَالرَّكْبُ) أى العير أو قوادها (أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أى فى مكان أسفل من مكانكم يعنى الساحل وهو نصب على* الظرفية واقع موقع الخبر والجملة حال من الظرف قبله وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم عادة وكذا ذكر مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت

٢٣

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٤٤)

____________________________________

رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشى فيها إلا بتعب ولم يكن فيها ماء بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله* تعالى (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أى لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم فى الميعاد هيبة منهم ويأسا من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعا من الله* عزوجل خارقا للعادات فيزدادوا إيمانا وشكرا وتطمئن نفوسهم بفرض الخمس (وَلكِنْ) جمع بينكم* على هذه الحال من غير ميعاد (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) حقيقا بأن يفعل من نصر أوليائه وقهر* أعدائه أو مقدرا فى الأزل وقوله تعالى (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) بدل منه أو متعلق بمفعولا أى ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإيمان والمراد بمن هلك ومن حيى المشارف للهلاك والحياة أو من حاله* فى علم الله تعالى الهلاك والحياة وقرىء ليهلك بالفتح وحيى بفك الإدغام حملا على المستقبل (وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أى بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) منصوب باذكر أو بدل آخر من (يَوْمَ الْفُرْقانِ) أو متعلق بعليم أى يعلم المصالح إذ يقللهم فى عينك فى رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم* وتشجيعا على عدوهم (وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ) أى لجبنتم وهبتم الإقدام (وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أى* أمر القتال وتفرقت آراؤكم فى الثبات والقرار (وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أى أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع* (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً) منصوب بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على المضمر السابق والضميران مفعولا يرى وقليلا حال من الثانى وإنما قللهم فى أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضى الله عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة تثبيتا لهم وتصديقا لرؤيا* الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) حتى قال أبو جهل إنما أصحاب محمد أكلة جزور قللهم فى أعينهم قبل التحام القتال ليجترئوا عليهم ولا يستعدوا لهم ثم كثرهم حتى رأوهم مثليهم لتفاجثهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا وهذه من عظائم آيات تلك الوقعة فإن البصر قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد وإنما ذلك بصد الله تعالى الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوى

٢٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (٤٧)

____________________________________

فى الشرائط (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) كرر لاختلاف الفعل المعلل به أو لأن المراد بالأمر ثمة* الالتقاء على الوجه المذكور وههنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الكفر وحزبه (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) * كلها يصرفها كيفما يريد لا راد لأمره ولا معقب لحكمه وهو الحكيم المجيد (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) صدر الخطاب بحرفى النداء والتنبيه إظهارا لكمال الاعتناء بمضمون ما بعده (إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً) أى حاربتم جماعة* من الكفرة وإنما لم يوصفوا بالكفر لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا الكفرة واللقاء مما غلب فى القتال (فَاثْبُتُوا) أى للقائهم فى مواطن الحرب (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أى فى تضاعيف القتال مستمدين* منه مستعينين به مستظهرين بذكره مترقبين لنصره (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أى تفوزون بمرامكم وتظفرون* بمرادكم من النصرة والمثوبة وفيه تنبيه على أن العبد ينبغى أن لا يشغله شىء عن ذكر الله تعالى وأن يلتجىء إليه عند الشدائد ويقبل إليه بكليته فارغ البال واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه فى حال من الأحوال (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) فى كل ما تأتون وما تذرون فيندرج فيه ما أمروا به ههنا اندراجا أوليا (وَلا تَنازَعُوا) باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد (فَتَفْشَلُوا) جواب للنهى وقيل عطف عليه (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) بالنصب عطف على جواب النهى وقرىء بالجزم على تقدير عطف فتفشلوا على النهى أى تذهب دولتكم وشوكتكم فإنها مستعارة للدولة من حيث إنها فى تمشى أمرها ونفاذه مشبهة بها فى هبوبها وجريانها وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفى الحديث نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور (وَاصْبِرُوا) على شدائد الحرب (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصرة والكلاءة وما يفهم من* كلمة مع من أصالتهم إنما هى من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متبعون من تلك الحيثية ومعيته تعالى إنما هى من حيث الإمداد والإعانة (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) بعد ما أمروا بما أمروا به من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها من قبائحها والمراد بهم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير (بَطَراً) أى فخرا وأشرا (وَرِئاءَ النَّاسِ) ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا* جحفة أتاهم رسول أبى سفيان وقال ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبوا إلا إظهار آثار الجلادة فلقوا ما لقوا حسبما ذكر فى أوائل السورة الكريمة فنهى المؤمنون أن يكونوا أمثالهم مرائين بطرين وأمروا بالتقوى والإخلاص من حيث إن النهى عن الشىء مستلزم للأمر بضده (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عطف على*

٢٥

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(٤٩)

____________________________________

بطرا إن جعل مصدرا فى موضع الحال وكذا إن جعل مفعولا له لكن على تأويل المصدر (وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فيجازيهم عليه (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) منصوب بمضمر خوطب به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق التلوين أى واذكر وقت تزيين الشيطان أعمالهم فى معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم* (وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أى ألقى فى روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا اللهم انصر إحدى الفئتين وأفضل الدينين ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لانتصب كقولك* لا ضاربا زيدا عندنا (فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ) أى تلاقى الفريقان (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) رجع القهقرى أى* بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سببا لهلاكهم (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) أى تبرأ منهم وخاف عليهم ويئس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى للمسلمين بالملائكة وقيل لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الأحنة فكاد ذلك يثنيهم فتمثل لهم إبليس فى صورة سرافة بن مالك الكنانى وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإنى مجيركم من كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده فى يد الحرث بن هشام فقال له إلى أين أتخذ لنا فى هذه الحالة فقال إنى أرى ما لا ترون ودفع فى صدر الحرث وانطلق فانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتنى هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله (إِنِّي أَخافُ اللهَ) أخافه أن يصيبنى بمكروه من الملائكة أو يهلكنى ويكون* الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم يره قبله والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر (وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) يجوز أن يكون من كلامه أو مستأنفا من جهة الله عزوجل (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) * منصوب بزين أو بنكص أو بشديد العقاب (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أى الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان بعد وبقى فيها نوع شبهة وقيل هم المشركون وقيل هم المنافقون فى المدينة والعطف لتغاير* الوصفين كما فى قوله[يا لهف زيابة للحارث * الصابح فالغانم فالآيب] (غَرَّ هؤُلاءِ) يعنون المؤمنين* (دِينُهُمْ) حتى تعرضوا لما لا طاقة لهم به فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) جواب لهم من جهته تعالى ورد لمقالتهم (فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يذل من توكل

٢٦

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٥٢)

____________________________________

عليه واستجاربه وإن قل (حَكِيمٌ) يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول وتحار فى فهمه ألباب الفحول* وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه (وَلَوْ تَرى) أى ولو رأيت فإن لو الامتناعية ترد المضارع ماضيا كما أن إن ترد الماضى مضارعا والخطاب إما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب وقد مر تحقيقه فى قوله تعالى (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) وكلمة إذ فى قوله تعالى (إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) ظرف لترى والمفعول محذوف أى ولو ترى الكفرة أو حال الكفرة حين يتوفاهم الملائكة ببدر وتقديم المفعول للاهتمام به وقيل الفاعل ضمير عائد إلى الله عزوجل و (الْمَلائِكَةُ) مبتدأ وقوله تعالى (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) خبره والجملة حال من الموصول قد استغنى فيها بالضمير عن الواو وهو على الأول* حال منه أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على ضميريهما (وَأَدْبارَهُمْ) أى وأستاههم أو ما أقبل منهم وما أدبر من الأعضاء (وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) على إرادة القول معطوفا على (يَضْرِبُونَ) أو حالا من فاعله* أى ويقولون أو قائلين ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة وقيل كانت معهم مقامع من حديد كلما ضربوا التهبت النار منها وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن حدود البيان أى لرأيت أمرا فظيعا لا يكاد يوصف (ذلِكَ) إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذاب وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونهما فى الغاية القاصية من الهول والفظاعة وهو مبتدأ خبره (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أى ذلك الضرب والعذاب واقع* بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصى ومحل أن فى قوله (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الرفع على أنه خبر* مبتدأ محذوف أى والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفى الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا قد مر تحقيقه فى سورة آل عمران والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبلها وأما ما قيل من أنها معطوفة على ما للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم فليس بسديد لما أن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافى كون تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه نعم لو كان المدعى كون جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) فى محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشىء آخر من جهة غيرهم بتشبيه حالهم بحال

٢٧

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٥٣)

____________________________________

المعروفين بالإهلاك بسبب جرائمهم لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة أى شأنهم الذى استمروا عليه مما فعلوا وفعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعون المشهورين* بقباحة الأعمال وفظاعة العذاب والنكال (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أى من قبل آل فرعون من الأمم التى فعلوا من المعاصى ما فعلوا ولقوا من العقاب ما لقوا كقوم نوح وعاد وأضرابهم من أهل الكفر والعناد* وقوله تعالى (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) تفسير لدأبهم الذى فعلوه لا لدأب آل فرعون ونحوهم كما قبل فإن ذلك* معلوم منه بقضية التشبيه وقوله تعالى (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) تفسير لدأبهم الذى فعل بهم والفاء لبيان كونه من* لوازم جناياتهم وتبعاتها المتفرعة عليها وقوله تعالى (بِذُنُوبِهِمْ) لتأكيد ما أفاده الفاء من السببية مع الإشارة إلى أن لهم مع كفرهم ذنوبا أخر لها دخل فى استتباع العقاب ويجوز أن يكون المراد بذنوبهم معاصيهم المتفرعة على كفرهم فتكون الباء للملابسة أى فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها فدأبهم مجموع ما فعلوا وفعل بهم لا ما فعلوه فقط كما قيل قال ابن عباس رضى الله عنهما إن آل فرعون أيقنوا أن موسى عليه‌السلام نبى الله فكذبوه كذلك هؤلاء جاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون وجعل العذاب من جملة دأبهم مع أنه ليس مما يتصور مداومتهم عليه واعتيادهم إياه كما هو المعتبر فى مدلول الدأب إما لتغليب ما فعلوه على ما فعل بهم أو لتنزيل مداومتهم على ما يوجبه* من الكفر والمعاصى منزلة مداومتهم عليه لما بينهما من الملابسة التامة وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ وقوله تعالى (ذلِكَ) الخ استئناف مسوق لتعليل ما يفيده النظم الكريم من كون ما حل بهم من العذاب منوطا بأعمالهم السيئة غير واقع بلا سابقة ما يقتضيه وهو المشار إليه لا نفس ما حل بهم من العذاب والانتقام كما قيل فإنه مع كونه معللا بما ذكر من كفرهم وذنوبهم لا يتصور تعليله بجريان عادته تعالى على عدم تغيير نعمته على قوم قبل تغييرهم لحالهم وتوهم أن السبب ليس ما ذكر كما هو منطوق النظم الكريم بل ما يستفاد من مفهوم الغاية من جريان عادته تعالى على تغيير نعمتهم عند تغيير حالهم بناء على تخيل أن المعلل ترتب عقابهم على كفرهم من غير تخلف عنه ركوب شطط هائل وإبعاد عن الحق بمراحل وتهوين لأمر الكفر بآيات الله وإسقاط له عن رتبة إيجاب العقاب فى مقام تهويله والتحذير منه فالمعنى ذلك أى ترتب العقاب على أعمالهم السيئة دون أن* يقع ابتداء مع قدرته تعالى على ذلك (بِأَنَّ اللهَ) أى بسبب أنه تعالى (لَمْ يَكُ) فى حد ذاته (مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها) أى لم ينبغ له سبحانه ولم يصح فى حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أنعم بها (عَلى قَوْمٍ) من* الأقوام أى نعمة كانت جلت أو هانت (حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الأعمال والأحوال التى كانوا عليها وقت ملابستهم بالنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة أو قريبة من

٢٨

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) (٥٤)

____________________________________

الصلاح بالنسبة إلى الحادثة كدأب هؤلاء الكفرة حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام مستمرين على حالة مصححة لإفاضة نعمة الإمهال وسائر النعم الدنيوية عليهم فلما بعث إليهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبينات غيروها إلى أسوأ منها وأسخط حيث كذبوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم يبغونهم الغوائل فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال وعاجلهم بالعذاب والنكال وأصل يك يكن فحذفت النون تخفيفا لشبهها بالحروف اللينة (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) عطف على أن الله الخ داخل معه فى* حيز التعليل أى وبسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميع ما يأتون وما يذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق بها من إبقاء النعمة وتغييرها وقرىء وإن الله بكسر الهمزة فالجملة حينئذ استئناف مقرر لمضمون ما قبلها وقوله تعالى (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) فى محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أى حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كدأب آل فرعون أى كتغييرهم على أن دأبهم عبارة عما فعلوه فقط كما هو الأنسب بمفهوم الدأب وقوله تعالى (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) * تفسير له بتمامه وقوله تعالى (فَأَهْلَكْناهُمْ) إخبار بترتب العقوبة عليه لا أنه من تمام تفسيره ولا ضير* فى توسط قوله تعالى (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) بينهما كما مر نظيره فى سورة آل عمران حيث جوزوا انتصاب محل الكاف بلن تغنى مع ما بينهما من قوله تعالى (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) وهذا على تقدير عطف الجملة على ما قبلها وأما على تقدير كونها اعتراضا فلا غبار فى توسطها قطعا وقيل فى محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قبله فالجملة حينئذ استئناف آخر مسوق لتقرير ما سيق له الاستئناف الأول بتشبيه دأبهم بدأب المذكورين لكن لا بطريق التكرير المحض بل بتغيير العنوان وجعل الدأب فى الجانبين عبارة عما يلازم معناه الأول من تغيير الحال وتغيير النعمة أخذا مما نطق به قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً) الآية أى دأب هؤلاء وشأنهم الذى هو عبارة عن التغييرين المذكورين كدأب أولئك حيث غيروا حالهم فغير الله تعالى نعمته عليهم فقوله تعالى (كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) تفسير لدأبهم الذى فعلوه من تغييرهم لحالهم وقوله تعالى (فَأَهْلَكْناهُمْ) تفسير لدأبهم الذى فعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته وأما دأب قريش فمستفاد منه بحكم التشبيه فلله در شأن التنزيل حيث اكتفى فى كل من التشبيهين بتفسير أحد الطرفين وإضافة الآيات إلى الرب المضاف إلى ضميرهم لزيادة تقبيح ما فعلوا بها من التكذيب والالتفات إلى نون العظمة فى أهلكنا جريا على سنن الكبرياء لتهويل الخطب والكلام فى الفاء وفى قوله تعالى (بِذُنُوبِهِمْ) كالذى مر وعطف قوله* تعالى (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) على أهلكنا مع اندراجه تحته للإيذان بكمال هول الإغراق وفظاعته كعطف جبريل عليه‌السلام على الملائكة (وَكُلٌّ) أى وكل من الفرق المذكورين أو كل من هؤلاء وأولئك* أو كل من غرقى القبط وقتلى قريش (كانُوا ظالِمِينَ) أى أنفسهم بالكفر والمعاصى حيث عرضوها للهلاك*

٢٩

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٥٧)

____________________________________

أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ) بعد ما شرح أحوال المهلكين من شرار الكفرة شرع فى بيان أحوال الباقين منهم وتفصيل أحكامهم* وقوله تعالى (عِنْدَ اللهِ) أى فى حكمه وقضائه (الَّذِينَ كَفَرُوا) أى أصروا على الكفر ولجوا فيه جعلوا شر الدواب لا شر الناس إيماء إلى أنهم بمعزل من مجانستهم وإنما هم من جنس الدواب ومع ذلك شر من* جميع أفرادها حسبما نطق به قوله تعالى (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) وقوله تعالى (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) حكم مترتب على تماديهم فى الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أصل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف أصلا جىء به على وجه الاعتراض لا أنه عطف على كفروا داخل معه فى حيز الصلة التى لا حكم فيها بالفعل وقوله تعالى (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) بدل من الموصول الأول أو عطف بيان له أو نصب على الذم أى عاهدتهم ومن للإيذان بأن المعاهدة التى هى عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين معتبرة ههنا من حيث أخذه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهدهم إذ هو المناط لقباحة مانعى عليهم من النقض لا إعطاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم عهده كأنه قيل الذين أخذت منهم عهدهم وقيل هى للتبعيض لأن المباشر يالذات للعهد بعضهم لا كلهم* (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ) عطف على (عاهَدْتَ) داخل معه فى حكم الصلة وصيغة الاستقبال للدلالة على تجدد* النقض وتعدده وكونهم على نيته فى كل حال أى ينقضون عهدهم الذى أخذته منهم (فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أى من مرات المعاهدة إذ هى التى يتوقع فيها عدم النقض ويستقبح وجوده لا من مرات المحاربة كما قيل إذ لا يتوقع فيها عدم النقض بل لا يتصور أصلا حتى يستقبح فيها وجوده لكونها مظنة لعدمه فلا فائدة فى تقييد النقض بالوقوع فى كل مرة من مراتها بل لا صحة له قطعا لأن النقض لا يتحقق إلا فى المرة الواردة على المعاهدة لا فى المرات الواقعة بعدها بلا معاهدة ولئن سلم أن المراد هى المرات الواقعة إثر المعاهدة يبقى النقض الواقع بلا محاربة كبيع السلاح ونحوه خارجا من البيان ولئن عد ذلك من المحاربة فلا محيص من لزوم خلو الكلام عن الفائدة بالمرة لأن المحاربة بهذا المعنى عين النقض فيؤول الأمر إلى أن يقال ينقضون عهدهم فى كل مرة من مرات النقض وحمل المحاربة على محاربة غيرهم ليكون المعنى ينقضون عهدهم فى كل مرة من مرات محاربة الأعداء مع كونه فى غاية البعد والركاكة يستلزم خروج بدئهم بالنقض* من البيان (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) حال من فاعل ينقضون أى يستمرون على النقض والحال أنهم لا يتقون سبة الغدر ولا يبالون بما فيه من العار والنار وقوله تعالى (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) شروع فى بيان أحكامهم بعد تفصيل أحوالهم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أى فإذا كان حالهم كما ذكر فإما تصادفنهم وتظفرن

٣٠

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) (٥٩)

____________________________________

بهم (فِي الْحَرْبِ) أى فى تضاعيفها (فَشَرِّدْ بِهِمْ) أى ففرق عن مناصبتك تفريقا عنيفا موجبا للاضطرار* والاضطراب ونكل عنها بأن تفعل بهم من النكاية والتعذيب ما يوجب أن تنكل (مَنْ خَلْفَهُمْ) أى* من وراءهم من الكفرة وفيه إيماء إلى أنهم بصدد الحرب قريب من هؤلاء وقرىء شرذ بالذال المعجمة ولعله مقلوب شذر بمعنى فرق وقرىء من خلفهم أى افعل التشريد من ورائهم والمعنى واحد لأن إيقاع التشريد فى الوراء لا يتحقق إلا بتشريد من وراءهم (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) يتعظون بما شاهدوا مما* نزل بالناقضين فير تدعوا عن النقض أو عن الكفر وقوله تعالى (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) بيان ٥٨ لأحكام المشرفين إلى نقض العهد إثر بيان أحكام الناقضين له بالفعل والخوف مستعار للعلم أى وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتى بما لاح لك منهم من دلائل الغدر ومخايل الشر (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أى فاطرح إليهم عهدهم (عَلى سَواءٍ) على طريق مستو قصد بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم إخبارا* مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا فالجار متعلق بمحذوف هو حال من النابذ أى فانبذ إليهم ثابتا على سواء وقيل على استواء فى العلم بنقض العهد بحيث يستوى فيه أقصاهم وأدناهم أو تستوى فيه أنت وهم فهو على الأول حال من المنبوذ إليهم وعلى الثانى من الجانبين (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) تعليل للأمر بالنبذ إما باعتبار* استلزامه للنهى عن المناجزة التى هى خيانة فيكون تحذيرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منها وإما باعتبار استتباعه للقتال بالآخرة فيكون حثا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النبذ أولا وعلى قتالهم ثانيا كأنه قيل وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت من حالهم (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أى أنفسهم فحذف للتكرار وقوله تعالى (سَبَقُوا) أى فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم مفعول ثان ليحسبن* والمراد إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الانتفاع بالنبذ والاقتصار على دفع هذا التوهم مع أن مقاومة المؤمنين بل الغلبة عليهم أيضا مما تتعلق به أمانيهم الباطلة للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم حوله وهمهم وحسبانهم وإنما الذى يمكن أن يدور فى خلدهم حسبان المناص فقط وقيل الفعل مسند إلى أحد أو إلى من خلفهم والمفعول الأول الموصول المتناول لهم أيضا وقيل هو الفاعل وأن محذوفة من سبقوا وهى مع ما فى حيزها سادة مسد المفعولين والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ويعضده قراءة من قرأ أنهم سبقوا ونظيره فى الحذف قوله تعالى (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) وقوله تعالى (أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ) الآية قاله الزجاج وقرىء بالتاء على خطاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى قراءة واضحة وقرىء ولا تحسب الذين بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أى لا يفوتون* ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم تعليل للنهى على طريقة الاستئناف وقرىء بفتح الهمزة على

٣١

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦١)

____________________________________

حذف لام التعليل وقيل الفعل واقع عليه ولا زائدة وسبقوا حال بمعنى سابقين أى مفلتين هاربين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يحذر من عاقبة النبذ لما أنه إيقاظ للعدو وتمكين لهم من الهرب والخلاص من أيدى المؤمنين وفيه نفى لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجه وآكده كما أشير إليه وقيل نزلت فيمن أفلت من فل المشركين وقرىء لا يعجزون بكسر النون ولا يعجزون بالتشديد (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) توجيه الخطاب إلى كافة المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل كما أن توجيهه فيما سبق وما لحق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكون ما فى حيزه من وظائفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى أعدوا لقتال الذين نبذ إليهم العهد وهيئوا لحرابهم أو لقتال* الكفار على الإطلاق وهو الأنسب بسياق النظم الكريم (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) من كل ما يتقوى به فى الحرب كائنا ما كان وعن عقبة بن عامر رضى الله عنه سمعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنير ألا إن القوة الرمى قالها ثلاثا* ولعل تخصيصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القوى (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) الرباط اسم للخيل التى تربط فى سبيل الله تعالى فعال بمعنى مفعول أو مصدر سميت هى به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا أو جمع ربيط كفصيل وفصال أو جمع ربط ككعب وكعاب وكلب وكلاب وقرىء ربط الخيل بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية* أفرادها كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة (تُرْهِبُونَ بِهِ) أى تخوفون وقرىء ترهبون بالتشديد وقرىء تخزون به والضمير لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسب ومحل الجملة النصب على الحالية من فاعل أعدوا أى أعدوا مرهبين به أو من الموصول أو من عائده المحذوف أى أعدوا ما استطعتموه مرهبا به* (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) وهم كفار مكة خصوا بذلك من بين الكفار مع كون الكل كذلك لغاية عتوهم ومجاوزتهم* الحد فى العداوة (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) من غيرهم من الكفرة وقيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل الفرس* (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أى لا تعرفونهم بأعيانهم أو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وهو الأنسب بقوله تعالى* (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) أى لا غيره فإن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضا (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) لإعداد العتاد قل* أوجل (فِي سَبِيلِ اللهِ) الذى أوضحه الجهاد (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أى جزاؤء كاملا (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بترك الإثابة أو بنقض الثواب والتعبير عن تركها بالظلم مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلما لبيان كمال نزاهته سبحانه عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وإبراز الإثابة فى معرض الأمور الواجبة عليه تعالى كما مر فى تفسير قوله تعالى (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) (وَإِنْ جَنَحُوا) الجنوح الميل ومنه الجناح ويعدى باللام وبإلى أى إن مالوا* (لِلسَّلْمِ) أى للصلح بوقوع الرهبة فى قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعداد وإعتاد العتاد (فَاجْنَحْ لَها)

٣٢

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤)

____________________________________

أى للسلم والتأنيث لحمله على نقيضه قال[السلم تأخذ منها ما رضيت به * والحرب يكفيك من أنفاسها جرع] وقرىء فاجنح بضم النون (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر* والكيد (إِنَّهُ) تعالى (هُوَ السَّمِيعُ) فيسمع ما يقولون فى خلواتهم من مقالات الخداع (الْعَلِيمُ) فيعلم نياتهم* فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم فى نحرهم والآية خاصة باليهود وقيل عامة نسختها آية السيف (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) بإظهار السلم وإبطال الحراب (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أى فاعلم بأن محسبك الله من* شرورهم وناصرك عليهم (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) تعليل لكفايته تعالى إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الاستئناف فإن* تأييده تعالى إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما سلف على ما ذكر من الوجه البعيد من الوقوع من دلائل تأييده تعالى فيما سيأتى أى هو الذى أيدك بإمداد من عنده بلا واسطة كقوله تعالى (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أو بالملائكة مع خرقه للعادات (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) من المهاجرين والأنصار (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة وهذا من أبهر معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أى لتأليف ما بينهم (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) * استئناف مقرر لما قبله ومبين لعزة المطلب وصعوبة المأخذ أى تناهى التعادى فيما بينهم إلى حد لو أنفق منفق فى إصلاح ذات البين جميع ما فى الأرض من الأموال والذخائر لم يقدر على التأليف والإصلاح وذكر القلوب للإشعار بأن التأليف بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليف ظاهرا (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) قلبا وقالبا* بقدرته الباهرة (إِنَّهُ عَزِيزٌ) كامل القدرة والغلبة لا يستعصى عليه شىء مما يريده (حَكِيمٌ) يعلم كيفية تسخير* ما يريده وقيل الآية فى الأوس والخزرج كان بينهم إحن لا أمدلها ووقائع أفنت ساداتهم وأعاظمهم ودقت أعناقهم وجماجمهم فأنسى الله عزوجل جميع ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وأصبحوا يرمون عن قوس واحدة وصاروا أنصارا (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) شروع فى بيان كفايته تعالى إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى جميع أموره وأمور المؤمنين أو فى الأمور الواقعة بينهم وبين الكفرة كافة إثر بيان كفايته تعالى إياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مادة خاصة وتصدير الجملة بحرفى النداء والتنبيه للتنبيه على مزيد الاعتناء بمضمونها وإيراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم (حَسْبُكَ اللهُ) أى كافيك فى جميع أمورك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحراب* (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فى محل النصب على أنه مفعول معه أى كفاك وكفى أتباعك الله ناصرا كما فى*

٣٣

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٦٥)

____________________________________

قول من قال [فحسبك والضحاك عضب مهند] وقيل فى موضع الجر عطفا على الضمير كما هو رأى الكوفيين أى كافيك وكافيهم أو فى محل الرفع عطفا على اسم الله تعالى أى كفاك الله والمؤمنون والآية نزلت فى البيداء فى غزوة بدر قبل القتال وقيل أسلم مع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر رضى الله عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضى الله عنهما نزلت فى إسلام عمر رضى الله عنه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) بعد ما بين كفايته إياهم بالنصر والإمداد أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بترتيب مبادى نصره وإمداده وتكرير* الخطاب على الوجه المذكور لإظهار كمال الاعتناء بشأن المأمور به (حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أى بالغ فى حثهم عليه وترغيبهم فيه بكل ما أمكن من الأمور المرغبة التى أعظمها تذكير وعده تعالى بالنصر وحكمه بكفايته تعالى أو بكفايتهم وأصل التحريض الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفى على الموت وقال الراغب كأنه فى الأصل إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به قلت فالأوجه حينئذ أن يجعل الحرض عبارة عن ضعف القلب الذى هو من باب نهك المرض وقيل معنى تحريضهم تسميتهم حرضا بأن يقال إنى أراك فى هذا الأمر حرضا اى محرضا فيه لتهيجه إلى الإقدام وقرىء حرص بالصاد المهملة وهو* واضح (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) وعد كريم منه تعالى بتغليب كل جماعة من المؤمنين* على عشرة أمثالهم بطريق الاستئناف بعد الأمر بتحريضهم وقوله تعالى (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً) مع انفهام مضمونه مما قبله لكون كل منهما عدة بتأييد الواحد على العشرة لزيادة التقرير المفيدة لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجرى بين الجمعين القليلين ما لا يجرى بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوت فيما بين كل من الجمعين* القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبين أن ذلك لا يتفاوت فى الصورتين وقوله تعالى (مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان للألف وهذا القيد معتبر فى المائتين أيضا وقد ترك ذكره تعويلا على ذكره ههنا كما ترك قيد الصبر* ههنا مع كونه معتبرا حتما ثقة بذكره هناك (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) متعلق بيغلبوا أى بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتسابا وامتثالا بأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لرضوانه كما يفعله المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان وإثارة ثائرة البغى والعدوان فلا يستحقون إلا القهر والخذلان وأما ما قيل من أن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر لا يؤمن بالميعاد فالسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية فيشح بها ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب واقتحام موارد الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامة فيفر فيغلب وأما من اعتقد أن لا سعادة فى هذه الحياة الفانية وإنما السعادة هى الحياة الباقية فلا يبالى بهذه الحياة الدنيا ولا يقيم لها وزنا فيقدم على الجهاد بقلب قوى وعزم صحيح فيقوم الواحد من مثله مقام الكثير فكلام حق لكنه لا يلائم المقام.

٣٤

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٧)

____________________________________

(الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) لما كان الوعد السابق متضمنا لإيجاب مقاومة الواحد للعشرة وثباته لهم كما نقل عن ابن جريج أنه كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة وقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمزة فى ثلاثين راكبا فلقى أبا جهل فى ثلثمائة راكب فهزمهم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه بعد مدة فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد للاثنين وقيل كان فيهم قلة فى الابتداء ثم لما كثروا نزل التخفيف والمراد بالضعف ضعف البدن وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين فى الاهتداء إلى القتال لا الضعف فى الدين كما قيل وقرىء ضعفا بضم الضاد وهى لغة فيه كالفقر والفقر والمكث والمكث وقيل الضعف بالفتح ما فى الرأى والعقل وبالضم ما فى البدن وقرىء ضعفاء جمع ضعيف والمراد بعلمه تعالى بضعفهم علمه تعالى به من حيث هو متحقق بالفعل لا علمه تعالى به مطلقا كيف لا وهو ثابت فى الأزل وقوله تعالى (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) تفسير للتخفيف وبيان لكيفيته وقرىء تكن ههنا وفيما* سبق بالتاء الفوقانية (وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) أى بتيسيره وتسهيله وهذا القيد معتبر* فيما سبق من غلبة المائة المائتين والألف وغلبة العشرين المائتين كما أن قيد الصبر معتبر ههنا وإنما ترك ذكره ثقة بما مر وبقوله تعالى (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) فإنه اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله والمراد* بالمعية معية نصره وتأييده ولم يتعرض ههنا لحال الكفرة من الخذلان كما لم يتعرض هناك لحال المؤمنين مع أن مدار الغلبة فى الصورتين مجموع الأمرين أعنى نصر المؤمنين وخذلان الكفرة اكتفاء بما ذكر فى كل مقام عما ترك فى المقام الآخر وما تشعر به كلمة مع من متبوعية مدخولها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر كما مر مرارا (ما كانَ لِنَبِيٍّ) وقرىء للنبى على العهد والأول أبلغ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أى ما صح وما استقام لنبى من الأنبياء عليهم‌السلام (أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) وقرىء بتأنيث الفعل وأسارى أيضا (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أى يكثر* القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولى أهله من أثخنه المرض والجرح إذا أثقله وجعله بحيث لا حراك به ولا براح وأصله الثخانة التى هى الغلظ والكثافة وقرىء بالتشديد للمبالغة (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) استئناف مسوق للعتاب أى تريدون حطامها بأخذكم الفداء* وقرىء يريدون بالياء (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أى يريد لكم ثواب الآخرة الذى لا مقدار عنده للدنيا وما* فيها أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه وقرىء بجر الآخرة على إضمار المضاف كما فى

٣٥

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٧٠)

____________________________________

* قوله[أكل امرىء تحسبين امرأ * ونار توقد بالليل نارا] (وَاللهُ عَزِيزٌ) يغلب أوليائه على أعدائه (حَكِيمٌ) يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المن بقوله تعالى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين. روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن أبى طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوى أصحابك وقال عمر اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء مكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكنى من فلان نسيب له فلنضرب أعناقهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم ومثلك يا عمر مثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فخير أصحابه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضى الله عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول الله أخبرنى فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال أبكى على أصحابك فى أخذهم الفداء ولقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه وروى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لو نزل عذاب من السماء لما نجا غير عمر وسعد بن معاذ وكان هو أيضا ممن أشار بالإثخان (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أى لو لا حكم منه تعالى سبق إثباته فى اللوح المحفوظ وهو أن لا يعاقب المخطىء فى اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوما لم يصرح لهم بالنهى وأما أن الفدية التى أخذوها ستحل لهم فلا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما فى الخمر مثلا لا ترفع حكم الإباحة السابقة على* أنه قادح فى تهويل مانعى عليهم من أخذ الفداء (لَمَسَّكُمْ) أى لأصابكم (فِيما أَخَذْتُمْ) أى لأجل ما أخذتم من الفداء (عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) روى أنهم أمسكوا عن الغنائم فنزلت قالوا الفاء لترتيب ما بعدها على سبب محذوف أى قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم والأظهر أنها للعطف على مقدر يقتضيه المقام أى دعوه فكلوا مما غنمتم وقبل ما عبارة عن الفدية فإنها من جملة الغنائم ويأباه* سباق النظم الكريم وسياقه (حَلالاً) حال من المغنوم أو صفة للمصدر أى أكلا حلالا وفائدته الترغيب* فى أكلها وقوله تعالى (طَيِّباً) صفة لحلالا مفيدة لتأكيد الترغيب (وَاتَّقُوا اللهَ) أى فى مخالفة أمره ونهيه* (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر لكم ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل ورود الإذن فيه ويرحمكم ويتوب عليكم إذا اتقيتموه (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ) أى فى ملكتكم كأن أيديكم قابضة عليهم (مِنَ الْأَسْرى)

٣٦

(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٧٢)

____________________________________

وقرىء من الأسارى (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) خلوص إيمان وصحة نية (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) * من الفداء وقرىء أخذ على البناء للفاعل. روى أنها نزلت فى العباس كلفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفدى ابنى أخيه عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحرث فقال يا محمد تركتنى أتكفف قريشا ما بقيت فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأين الذهب الذى دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها ما أدرى ما يصيبنى فى وجهى هذا فإن حدث بى حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل فقال العباس ما يدريك فقال أخبرنى به ربى قال العباس فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها فى سواد الليل ولقد كنت مرتابا فى أمرك فأما إذا أخبرتنى بذلك فلا ريب قال العباس بعد حين فأبدلنى الله خيرا من ذلك لى الآن عشرون عبدا وإن أدناهم ليضرب فى عشرين ألفا وأعطانى زمزم ما أحب أن لى بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربى يتأول به ما فى قوله تعالى (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنه وعد بالمغفر مؤكد بما بعده من الاعتراض التذييلى (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ) أى نكث ما بايعوك عليه من الإسلام وهذا كلام مسوق من جهته تعالى لتسليته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطريق الوعد له والوعيد لهم (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) بكفرهم ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أى* أقدرك عليهم حسبما رأيت يوم بدر فإن أعادوا الخيانة فاعلم أنه سيمكنك منهم أيضا وقيل المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء وهو بعيد (وَاللهُ عَلِيمٌ) فيعلم ما فى نياتهم وما يستحقونه من العقاب (حَكِيمٌ) يفعل* كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) هم المهاجرون هاجروا أوطانهم حبا لله تعالى ولرسوله (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) بأن صرفوها إلى الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج* (وَأَنْفُسِهِمْ) بمباشرة القتال واقتحام المعارك والخوض فى المهالك (فِي سَبِيلِ اللهِ) متعلق بجاهدوا قيد* لنوعى الجهاد ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا وأتم دفعا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) هم الأنصار آووا المهاجرين* وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم وآثروهم على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ونصروهم على أعدائهم (أُولئِكَ) إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من النعوت الفاضلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم* وبعد منزلتهم فى الفضيلة وهو مبتدأ وقوله تعالى (بَعْضُهُمْ) إما بدل منه وقوله تعالى (أَوْلِياءُ بَعْضٍ) خبره*

٣٧

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧٥)

____________________________________

وإما مبتدأ ثان وأولياء بعض خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أى بعضهم أولياء بعض فى الميراث وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بقوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) الآية وقيل فى النصرة والمظاهرة ويرده قوله تعالى (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) بعد نفى موالاتهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) كسائر المؤمنين (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أى من توليهم فى الميراث وإن كانوا من* أقرب أقاربكم (حَتَّى يُهاجِرُوا) وقرىء بكسر الواو تشبيها بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين (إِلَّا عَلى قَوْمٍ) منهم* (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) معاهدة فإنه لا يجوز نقض عهدهم بنصرهم عليهم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا تخالفوا أمره كيلا يحل بكم عقابه (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) آخر منهم فى الميراث أو فى الموازرة وهذا بمفهومه مفيد لنفى الموارثة والموازرة بينهم وبين المسلمين وإيجاب المباعدة والمصارمة* وإن كانوا أقارب (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أى ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم بعضا حتى التوارث* ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) أى تحصل فتنة عظيمة فيها وهى ضعف الإيمان وظهور الكفر (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) فى الدارين وقرىء كثير (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) كلام مسوق للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم* بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله تعالى (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لا تبعة له ولا منة فيه فلا تكرار لما أن مساق الأول لإيجاب التواصل بينهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا) بعد هجرتكم* (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) فى بعض مغازيكم (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أى من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار وهم الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم الله تعالى بالسابقين وجعلهم منهم تفضلا منه وترغيبا فى الإيمان والهجرة وفى توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات من* تشريفهم ورفع محلهم ما لا يخفى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) آخر منهم فى التوارث من الأجانب* (فِي كِتابِ اللهِ) أى فى حكمه أو فى اللوح أو فى القرآن واستدل به على توريث ذوى الأرحام (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ومن جملته ما فى تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولا وبالقرابة النسبية آخرا من الحكم البالغة. عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه برىء من

٣٨

٩ ـ سورة براءة

(مدنية وآياتها ١٢٩)

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١)

النفاق وأعطى عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته والله تعالى أعلم.

____________________________________

(سورة براءة مدنية وهى مائة وتسع وعشرون آية)

ولها أسماء أخر : سورة التوبة والمقشقشة والبحوث والمنقرة والمبعثرة والمثيرة والحافرة والمخزية والفاضحة والمنكلة والمشردة والمدمدمة وسورة العذاب لما فيها من ذكر التوبة ومن التبرئة من النفاق والبحث والتنقير عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويشردهم ويدمدم عليهم واشتهارها بهذه الأسماء يقضى بأنها سورة مستقلة وليست بعضا من سورة الأنفال وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر فيكون حكمة ترك النسمية عند النزول نزولها فى رفع الأمان الذى يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعا بوصف الرحمة كما روى عن ابن عيينة رضى الله عنه لا الاشتباه فى استقلالها وعدمه كما يحكى عن ابن عباس رضى الله عنهما ولا رعاية ما وقع بين الصحابة رضى الله عنهم من الاختلاف فى ذلك على أن ذلك ينزع إلى القول بأن التسمية ليست من القرآن وإنما كتبت للفصل بين السور كما نقل عن قدماء الحنفية وأن مناط إثباتها فى المصاحف وتركها إنما هو رأى من تصدى لجمع القرآن دون التوقيف ولا ريب فى أن الصحيح من المذهب أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وأن لا مدخل لرأى أحد فى الإثبات والترك وإنما المتبع فى ذلك هو الوحى والتوقيف ولا مرية فى عدم نزولها ههنا وإلا لامتنع أن يقع فى الاستقلال اشتباه أو اختلاف فهو إما لاتحاد السورتين أو لما ذكرنا لا سبيل إلى الأول وإلا لبينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتحقق مزيد الحاجة إلى البيان لتعاضد أدلة الاستقلال من كثرة الآيات وطول المدة فيما بين نزولهما فحيث لم يبينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعين الثانى لأن عدم البيان من الشارع فى موضع البيان بيان للعدم (بَراءَةٌ) خبر مبتدأ محذوف وتنوينه للتفخيم وقرىء بالنصب أى اسمعوا براءة ١ ومن فى قوله تعالى (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ليفيدها زيادة تفخيم وتهويل* أى هذه براءة مبتدأة من جهة الله تعالى ورسوله وصلة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وإنما لم يذكر* ما تعلق به البراءة حسبما ذكر فى قوله تعالى (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اكتفاء بما فى حيز الصلة فإنه منىء عنه إنباء ظاهرا واحترازا عن تكرير لفظة من وقيل هى مبتدأ لتخصصها بالصفة وخبره إلى الذين الخ والذى تقتضيه جزالة النظم هو الأول لأن هذه البراءة أمر حادث لم يعهد عند المخاطبين ذاتها ولا عنوان ابتدائها من الله تعالى ورسوله حتى يخرج ذلك العنوان مخرج الصفة لها ويجعل المقصود بالذات والعمدة فى الإخبار شيئا آخر هو وصولها إلى المعاهدين وإنما الحقيق بأن يعتنى بإفادته حدوث تلك

٣٩

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢)

____________________________________

البراءة من جهته تعالى ووصولها إليهم فإن حق الصفات قبل علم المخاطب بثبوتها لموصوفاتها أن تكون أخيارا وحق الأخبار بعد العلم بثبوتها لما هى له أن تكون صفات كما حقق فى موضعه وقرىء من الله بكسر النون على أن الأصل فى تحريك الساكن الكسر ولكن الوجه هو الفتح فى لام التعريف خاصة لكثرة الوقوع والعهد العقد الموثق باليمين والخطاب فى عاهدتم للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركى العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنكثوا إلا بنى ضمرة وبنى كنانة فأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهلوا أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا وإنما نسبت البراءة إلى الله ورسوله مع شمولها للمسلمين واشتراكهم فى حكمها ووجوب العمل بموجبها وعلقت المعاهدة بالمسلمين خاصة مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنباء عن تنجزها وتحتمها من غير توقف على رأى المخاطبين لأنها عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتب على العهد السابق عن التعرض للكفرة وذلك منوط بجناب الله عزوجل لأنه أمر كسائر الأوامر الجارية على حسب حكمة تقتضيها وداعية تستدعيها تترتب عليها آثارها من غير توقف على شىء أصلا واشتراك المسلمين فى حكمها ووجوب العمل بموجبها إنما هو على طريقة الامتثال بالأمر لا على أن يكون لهم مدخل فى إتمامها أو فى ترتب أحكامها عليها وأما المعاهدة فحيث كانت عقدا كسائر العقود الشرعية لا تتحصل فى نفسها ولا تترتب عليها أحكامها إلا بمباشرة المتعاقدين على وجوه مخصوصة اعتبرها الشرع لم يتصور صدورها عنه سبحانه وإنما الصادر عنه فى شأنها هو الإذن فيها وإنما الذى يباشرها ويتولى أمرها المسلمون ولا يخفى أن البراءة إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنسبت كل واحدة منهما إلى من هو أصل فيها على أن فى ذلك تفخيما لشأن البراءة وتهويلا لأمرها وتسجيلا على الكفرة بغاية الذل والهوان ونهاية الخزى والخذلان وتنزيها لساحة السبحان والكبرياء عما يوهم شائبة النقص والنداء تعالى عن ذلك علوا كبيرا وإدراجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى النسبة الأولى وإخراجه عن الثانية لتنويه شأنه الرفيع وإجلال قدره المنيع فى كلا المقامين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية كأن يقال قد برىء الله ورسوله من الذين أو نحو ذلك للدلالة على دوامها واستمرارها وللتوسل إلى تهويلها بالتنوين التفخيمى كما أشير إليه (فَسِيحُوا) السياحة والسيح الذهاب فى الأرض والسير فيها بسهولة على مقتضى المشيئة كسيح الماء على موجب الطبيعة ففيه من الدلالة على كمال التوسعة* والترفيه ما ليس فى سيروا ونظائره وزيادة قوله عزوجل (فِي الْأَرْضِ) لقصد التعميم لأقطارها من دار الإسلام وغيرها والمراد إباحة ذلك لهم وتخليتهم وشأنهم من الاستعداد للحرب أو تحصين الأهل والمال وتحصيل المهرب؟؟؟ أو غير ذلك لا تكليفهم بالسياحة فيها وتلوين الخطاب بصرفه عن المسلمين وتوجيهه إليهم مع حصول المقصود بصيغة أمر الغائب أيضا للمبالغة فى الإعلام بالإمهال حسبما لمادة تعللهم بالغفلة وقطعا لشأفة اعتذارهم بعدم الاستعداد وإيثار صيغة الأمر مع تسنى إفادة ذلك المعنى بطريق الإخبار أيضا كأن يقال مثلا فلكم أن تسيحوا أو نحو ذلك لإظهار كمال القوة والغلبة وعدم الاكتراث

٤٠